العراق يقف حائراً لحسم مصير تعديلات تشريعية ترتدي "ثوب الملالي"
عقب جدل بشأن زواج القاصرات
ناشطون وبرلمانيون عراقيون يدعون للتظاهر لرفض تمرير مقترحات تعديل قانون الأحوال الشخصية
رئيس المركز العراقي للدراسات السياسية والاستراتيجية: تعديل القانون بصبغة دينية مذهبية يهدد بالانقسام المجتمعي
محلل سياسي: تعديلات القانون تطعن في المنظومة القانونية للدولة ومحاولة لفرض هيمنة "سلطة طائفية"
برغبة مستترة لتمرير زواج القاصرات عبر تعديلات قانون الأحوال الشخصية، يقف العراق فوق صفيح ساخن منتظرا انتصار إرادة أحد فريقي الرفض والقبول، لا سيما أن الأخير تقف وراءه أيادٍ إيرانية.
والأحد، أطلق ناشطون وبرلمانيون عراقيون دعوة للتظاهر بساحة التحرير في العاصمة بغداد، لرفض محاولات تمرير مقترحات تعديل قانون الأحوال الشخصية، والذي يتضمن إباحة تزويج القاصرات.
ولم يحسم البرلمان العراقي الجدل يوم الأربعاء الماضي بشأن تعديلات قانون الأحوال الشخصية، إذ يعتبره البعض تهديدا طائفيا خطيرا للدولة وسعي لفرض المذهب الشيعي الموالي لإيران.
تعديلات تشريعية
وقبل أيام قدم عضو اللجنة القانونية بمجلس النواب رائد المالكي، تعديلات على قانون الأحوال الشخصية والتي تشمل إدخال الوقفين الشيعي والسني في قضايا الزواج والتفريق وحضانة الطفل وحقوق النساء في الإرث والنفقة.
وفي قضايا الزواج، تمس المقترحات الفقرة الأولى من المادة السابعة من قانون الأحوال الشخصية الحالي والصادر في عام 1959، والذي يشترط بلوغ الزوجين 18 عاما لعقد القران أو 15 عاما مع إذن من القاضي.
وحال موافقة البرلمان العراقي على تعديلات القانون، يعني خضوع مؤسسات الدولة للمذهب الجعفري الذي ينتمي إليه معظم الشيعة العراقيين الذي يسمح بتزويج الفتيات دون تحديد أعمارهن، وهو أمر وضعه رافضون في خانة شرعنة زواج القاصرات، في ظل وصول "الإطار التنسيقي" الموالي لإيران إلى السلطة في البلاد.
والثلاثاء، قال النائب رائد المالكي في بيان: "المقترح المتفق مع الدستور يعطي الحرية للعراقي بأن يختار تطبيق أحكام قانون الأحوال الشخصية النافذ عليه (قانون ١٨٨ لسنة ١٩٥٩) أو يختار أحكام (المدونة الشرعية في مسائل الأحوال الشخصية) التي سيتم وضعها والموافقة عليها من مجلس النواب".
وأشار المالكي إلى أن أحكام المدونة الشرعية ستتضمن بابين اثنين، أحدهما للفقه الجعفري والآخر للفقه السني "توضع من قبل المجلس العلمي في ديواني الوقفين الشيعي والسني بالتنسيق مع مجلس الدولة ووفقاً للمشهور من أحكام الفقهين".
واستدعى البرلماني العراقي رائد المالكي الذي يقول إنه نائب مستقل، في معركته عشية مناقشة المقترحات بالبرلمان، آية قرآنية عبر حسابه بمنصة إكس، قائلا: "فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا" (سورة النساء ٦٥)".
وأضاف في تغريدة وقتها قائلا: "يؤسفنا أن بعض النواب ممن أقسموا على تطبيق أحكام الدستور بموجب اليمين الدستورية (م ٥٠) يرفضون اليوم تطبيق أحكامه، التعديل المقترح لقانون الأحوال الشخصية هو تنفيذ لأحكام المادة ٤١ من الدستور التي تنص على أن العراقيين أحرار في أحوالهم الشخصية".

رائد المالكي
جبهة الرافضين
وأعربت رئيسة كتلة الجيل الجديد في مجلس النواب سروة عبدالواحد، عن رفضها لتعديلات القانون، مؤكدة عبر حسابها بمنصة "إكس" أن "البرلمان مؤسسة عريقة ولا أحد يستطيع المساس بها، لكن حينما تضع الرئاسة جدول أعمال وبناءً على طلب نائب واحد تقوم بتعديل قانون الأحوال الشخصية الذي يمس كل العراقيين فكيف نرد؟".
واعتبرت عبدالواحد أن تمرير هذا التعديل يقسّم العراق ومَن يتحدث باسم المرجعية (أي قادة المذهب الشيعي) ويقول إن المرجع الأعلى دعا إلى هذا التعديل لتقسيم العراق فعليه أن يعطينا دليلاً واضحاً وصريحاً على هذا الكلام.
وأكدت أنه "تم تجميع توقيعات لسحب مقترح قانون تعديل قانون الأحوال الشخصية، لأنه من ضمن المواد المختلف عليها ولا يمكن تمريره".

سروة عبدالواحد
وكشفت النائبة العراقية نور نافع الجليحاوي، في تغريدات لها بمنصة "إكس"، أنه تم تقديم طلب لرفع مناقشة التعديلات لحين إعادة بحثها بعد جمع توقيعات 32 نائبا ونائبة، منبهة لخطورة تمرير تلك التعديلات التي قد تسبب الانقسامات وتهدد النسيج الوطني.

نور نافع الجليحاوي
وعقب تأجيل النقاش حول تلك التعديلات، عاد النائب رائد المالكي مغردا عبر حسابه بقوله: "رئاسة مجلس النواب خالفت النظام الداخلي برفع جلسة مجلس النواب دون إكمال فقرات الجدول الأخرى بعد احتجاج أعضاء مجلس النواب على تأجيل فقرة تعديل قانون الأحوال الشخصية".
وتوعد النائب بإعادة المقترحات للنقاش مجددا في البرلمان، قائلا: "لن نتراجع عن مطلب تعديل القانون وسنضغط لإدراجه في الجلسة القادمة ولن نقبل فرض الإرادات المضللة والفاسدة".
واعتاد المالكي استخدام التعبيرات الدينية في الرد على منتقديه، إذ قال في إحدى تغريداته "من تمسك بحبل الله لن يسقط"، وأوضح في مرة أخرى أن تعديلاته تستند على المادة الثانية من الدستور في فقرتها الأولى التي تنص على عدم جواز تشريع قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الشريعة الإسلامية، وكذلك على المادة 41 التي أعطت الحرية للعراقيين في تنظيم أحوالهم الشخصية، وفقاً لمذاهبهم ودياناتهم ومعتقداتهم.
في المقابل شاركت رئيسة كتلة الجيل الجديد في مجلس النواب سروة عبدالواحد، في الترويج لدعوة تنظيم احتجاجات بساحة التحرير في بغداد، "رفضا لأي محاولات قادمة لتمرير المقترحات التي تبيح تزويج القاصرات".
وتحت شعار "لا للطائفية.. لا لتعديل قانون الأحوال الشخصية"، أعلن الحزب الشيوعي العراقي في بيان، أن مسودة مشروع القانون "تقسم العراقيين وفقاً للمذهب، بما يكرس النزعة الطائفية المقيتة، التي ألحقت أضراراً جسيمة بالمجتمع العراقي، وأشعلت الحروب والانقسامات".
ودعا الحزب "جميع القوى الوطنية والديمقراطية والمدنية، أحزابا ومنظمات وشخصيات، إلى رفضها ومنع تمريرها، بكل الوسائل الديمقراطية المتاحة، لما تمثله من خطورة مجتمعية وسياسية جذرية".
هجوم افتراضي
ودشن مغردون عراقيون هاشتاغ (وسم) باسم "#لا_لتعديل_قانون_الأحوال_الشخصية"، إذ رأى حساب باسم محمد الكندي، أن تشريع الزواج دون قيود للعُمر من الإخفاقات التشريعية التي تعد لهدم العائلة العراقية ورفع نسب الطلاق وزيادة مشكلات المجتمع، مؤكدا أن أغلبها لا تمت للإسلام الحقيقي بصلة.
وتحت هاشتاغ آخر باسم "#لا_لتزويج_القاصرات" كتب حساب باسم بلال طالب، قائلا: "أيها العراقيون الأشراف إياكم وإياكم من إنجاح هذا المشروع التدميري لما تبقى من القيم الإنسانية في العراق".
وتفاعل مئات العراقيين مع الهاشتاغات بالتغريدات والصور والكوميكس، إذ ذكر البعض أن هذه ليست المرة الأولى التي يجرى فيها المساس بقانون الأحوال الشخصية بالعراق، ففي عام 2014 أثار مشروع قانون الأحوال الشخصية الجعفري الذي تقدم به وزير العدل آنذاك حسن الشمري جدلا واسعا، واعتبر معارضوه آنذاك أنه يمثل "انتهاكا خطيرا" لحقوق الطفولة لأنه يجيز تزويج الطفلة تحت سن 9 أعوام.
وبحسب المغردين، عادت محاولات تعديل القانون مجددا في عام 2017 من بعض النواب لتعديل مماثل بشأن تخفيض سن الزواج، قبل أن يتم التراجع عنه تحت ضغط منظمات المجتمع المدني.
وانتشرت على منصات التواصل الاجتماعي صورا لفتيات صغيرات يتم اقتيادهن إلى مراسم العرس، وفتيات أخريات لا يزلن في مرحلة اللعب بالعرائس ينتظرهن عريس بالغ، الأمر الذي ساهم في تزايد أعداد الرافضين لتعديلات القانون على ساحات الفضاء الافتراضي بالعراق.
كواليس التعديلات
بدوره قال رئيس المركز العراقي للدراسات السياسية والاستراتيجية (غير حكومي) غازي فيصل، إن "قانون الأحوال الشخصية في العراق هو نموذج للقانون المدني الذي يضمن حقوق مختلف الأديان والمذاهب والثقافات في ما يتعلق بعقود الزواج وغيرها، بعيدا عن الأطر المذهبية والدينية وغيرها".
وأضاف فيصل لـ"جسور بوست": "لهذا السبب كان العراق من الدول المتقدمة في قانون الأحوال الشخصية وضمان حقوق المرأة في المعاملات الخاصة بالمواريث والزواج والطلاق، حيث يتيح القانون الحالي الموازنة بين ضمان الحقوق القانونية في إطار الدولة والدستور والقضاء، وفي نفس الوقت ضمان الحرية الدينية والمذهبية في تنظيم هذه العقود".
وأوضح: "ليس من المستحسن والعقلاني إجراء تعديل على قانون الأحوال الشخصية بصورة تحوله من طبيعته المدنية القانونية الدستورية إلى طبيعة دينية مذهبية"، مؤكدا أن ذلك يفقده الضمانات القانونية للزوج والزوجة والأبناء ويهدد بالانقسام داخل المجتمع العراقي.

غازي فيصل
ويرى المحلل السياسي العراقي حسين السبعاوي، أن تعديلات القانون تطعن في المنظومة القانونية للدولة، بحيث تنزع ولايتها في قضايا الزواج والطلاق والمواريث، وتمنح الوقف الجعفري (الشيعي) والسني، الحق أيضا في إنشاء الزواج ما يعزز الطائفية ويضيع الحقوق في البلاد.
وأكد السبعاوي لـ"جسور بوست" أن تلك التعديلات تسهل تزويج القاصرات بالتأكيد لأن المذهب الشيعي لا يضع سنا للبلوغ أو الزواج، لا سيما أن التشريعات لا تدخل في التفاصيل وبالتالي فإن تجاهل سن الزواج يعني إباحة تخفيضه.
وانتقد تركيز القوى المدنية على زواج القاصرات فقط دون الحديث عن كارثة النفقة التي تسمح التعديلات بمنعها عن سيدات وفق المذهبية التي تتبعها تعديلات النائب المالكي، محذرا من أن العراقيين أمام "سلطة طائفية" تريد أن تفرض مذهبا معينا على الجميع وتلغي دور الدولة العراقية.
ولفت السبعاوي إلى أن "تجمع الإطار التنسيقي الحاكم مرتبط مباشرة بإيران وينتهز هذه الفرصة للهيمنة على العراق بالتشريعات، فبعد أن هيمنت إيران على العراق عبر الأوضاع الأمنية والسياسية تنتقل الآن للسيطرة على حقوق المجتمع وتمس الهوية العراقية".
حسين السبعاوي
ووفق الخبير العراقي، تلك التعديلات تنتظر سيناريوهين: الأول تأجيلها إلى أجل غير مسمى تحت ضغوط الاحتياجات والرفض، أو سيناريو ثانٍ يتمثل في وضع آليات قانونية جديدة لكن ستبقى ملغومة ومحل رفض، لذا السيناريو الأول الأقرب للحدوث.
وينتظر العراق العامر بالتحديات الاقتصادية والأمنية والسياسية ماراثون الصراع حول ملف قانون الأحوال الشخصية، بين فريق الإصرار على تمرير التعديلات التشريعية في البرلمان وفريق آخر يرفض ذلك رفضا قاطعا.